المقال الرابع عشر " أبوياااااااااااااااااا "

أبويااااااااااا

صلاح عبداللهالخميس 06-03-2014 20:50
«قصة قصيرة»
■ ■
كل يوم الصبح أقوم مالنوم
بوش من النكد منفوخ
وقلب من الأسى مفشوخ
وعقل على طول ملخوم
وعلى طول ملبوخ.. وأدوخ
على لقمة بايتة أشق بيها ريقى
وأشوف بيها طريقى
ثم بعد شوية أطس وشى بحبة ميه
وألبس الهدوم اللى بلبسها كل يوم
وأروح على الجامعة مكسور ومهموم
شايل كتاب وكشكول
وقلم رصاص مقصوف
وقلم جاف.. مكسوف
حبره ما بينزلش إلا لو نفخت فيه
وشايل كمان عرق أبويا وشقا عمره
اللى ضاااااع.. اللى ضاع عليا
عشان أحقق حلمه وأخش الجامعة
وأخش الجامعة أشوف الجامعة والعة
وألاقى نفسى فى المظاهرة اللى لسه طالعة
لسه طالعة يا دوب
ونتخانق مع الشرطة زى كل يوم
وأحدف واتحدف بالطوب
وأنا بهتف يسقط يسقط
والنهاردة.. طوبة منى جت فى راس
عسكرى شرطة بس كان راجل عجوز
شفت دمه اللى سال على جبينه
داخل على عينه
وشفت عينه بتعاتبنى
وبتقولى: ليه كدا يا بنى؟!
دا أنا زى أبوك
وشوفت عين أبويا جوه عينه
وجوه منها دمعه
وصوته فى ودانى
إوعى ترجع ليا يابنى
من غير شهادة الجامعة
وإوعى تنسانى
إوعى البنات يلهوك
ولا بتوع السياسة يسيسوك
ولا العيال الشمال
يفسدوك ويتلفوك
ولا الإخوان يأخونوك
إوعى تخون أمل أبوك
وحلمه القديم العجوز
وفجأة يمكن من تأثير الغاز
أو من تأثير الجوع.. يجوز
وقعت وأنا بهتف يسقط يسقط
واتبحترت منى الحاجات
واكتشفت إن كتابى لسه مانفتحش
وكشكولى حرف واحد فيه مانكتبش
والحبر الجاف طفح
وشوه لون.. القميص والبنطلون
والقلم المقصوف انكسر فى جيبى
جنب قلبى.. وصورة حبيبى
صورة أبويا
وأنا لسه بهتف يسقط يسقط
سرح بيا الخيال
وسألت نفسى سؤال
كانت إجابته ما فيش
ولقيتنى بصرخ وأقول
هوه مين يسقط عشان مين يعيش؟!
ومين سقط ومين اللى بعده عاش؟!
وفجأة رحت لحد بيتنا فى البلد
وشفت أبويا اللى عضم أمه باش
عشان أكمل وأقدر أخش الجامعة
اللى لسه.. ببلاش
وافتكرت إن أبويا
كان فى الشرطة صول
قبل ما يطلع معاش
«كتبتها فى ١٠ / ١٢ / ٢٠١٣م»
«أثناء مظاهرات الطلبة السلمية غير السلمية الدموية»
سى عبدالله
■ ■
كانت أمى، الله يرحمها، تنادى أبى دائماً: «يا سى عبدالله» وكانت على طول بتقول «سى عبدالله راح.. سى عبدالله جه.. سى عبدالله زعلان.. سى عبدالله فرحان»، لدرجة أننى حتى الخامسة من عمرى تقريباً، كنت أعتقد أن اسمى هو صلاح سى عبدالله.. وأدركت بعد ذلك أن سى هذه من باب التقدير والاحترام.. وعندما شاهدت سى السيد فى ثلاثية العبقرى النجيب المحفوظ، رحمه الله، زاد إدراكى لمعنى سى.. ولكن شتان الفارق بين أمينة وأمى، وسى السيد، وسى عبدالله.. كان أبى رجلاً شديد الطيبة والتدين، وكان محبوباً من الجميع، وكان معظم أهل الحى يلجأون له لحل مشاكلهم، وكان قليل الكلام ومضرب المثل فى الالتزام.. ويومه كله يقضيه بين الوظيفة التى كان يتفانى فى أدائها على أكمل وجه، وبيته، وأسرته ومراعاة أمى المريضة وأبنائه.. كان يعد لنا الإفطار بنفسه قبل الذهاب إلى العمل.. لم أسمعه يوماً يتكلم فى السياسة ولم ينتمى أبداً لأى تيار أو جماعة، ومع ذلك لن أنسى وجهه وهو يبكى بحرقة أثناء خطاب التنحى بعد نكسة يونيو ٦٧ ولن أنساه عندما وقف بيننا يرقص مهللاً بعد أن تيقنا من عبور جيشنا العظيم لقناة السويس، ورفع العلم المصرى فى سيناء فى أكتوبر ٧٣.
هكذا كان سى عبدالله، الذى لا تكفى كل صفحات الوطن للحديث عنه.. المهم بعد سنين من وفاته، وأنا عائد إلى بيتى بعد المسرح رنَّ فى أذنى فجأة صوت أمى وهى تردد: «سى عبدالله.. يا سى عبدالله».. اتجهت لزوجتى التى كانت تغط فى نوم عميق.. أضأت كل مصابيح الغرفة وأيقظتها قائلاً: من هنا ورايح لازم تقوليلى «سى صلاح».. فتحت عينيها بالعافية، ونظرت لى نظرة لم أعهدها، ثم قالت: مالك؟! إنت سخن؟! ولا شارب حاجة؟! ثم أدارت وجهها وعادت لنومها.. حملت صورة أبى، وأطفأت الأنوار، وخرجت إلى الصالة أردد بصوت جهورى أغنية المرحوم محمد رشدى: «يا عبدالله يا خويا سماح»، التى كنت أداعبه بها فى أيامه الأخيرة لأهون عليه محنة المرض.
«يا عبدالله يا بويا سماح.. وسيبك ماللى عدى وراح.. تعالى نعيش يابو صلاح.. فى دنيا كلها أفراح.. وسيبك ماللى عدى وراح».
رحم الله أبى.. رحمك الله يا أجمل سى عبدالله.. وإلى أن نلتقى مرة أخرى.. إليكم أطيب أمانى قلبى ودعواته.. وسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.